إنه لأعظم ثناء، وأحسن تكريم، أن يشهد الله تعالى لعبده ورسوله محمد بهذا الخلق العظيم. وإن ثمرة صدق اتباعه، صلى الله عليه وسلم، تظهر في الفهم الواعي لتواصل حلقات سلسلة شهادة المسلمين على العالمين، والأخذ بأسباب تحققها. يقول الله تعالى في سورة الحج:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {78}
تدبر قول الله تعالى: " هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ " لتقف على أهمية تمسك المسلمين بما سماهم الله تعالى به [ من غير تصنيف طائفي ] وأثر ذلك في إقامة الشهادة على الناس. وتدبر قوله تعالى: " وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ " بعد قوله: " فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ " لتقف على أهمية تفعيل الشريعة الإسلامية سلوكاً عملياً وعملاً صالحاً في حياة الناس، وأن ذلك لن يتحقق إلا بوحدة التوجه الإيماني، بالله تعالى وبرسوله، نحو هدف واحد.
إن قضية حب الله ورسوله وأثرها على وحدة المسلمين في توجههم الإيماني نحو نصرة هذا الرسول العظيم، من القضايا التي ضاعت ملامحها وسط أمواج الصراعات المذهبية التي عصفت بوحدة الأمة وتماسكها. لقد انشغل معظم علماء المسلمين، على مر العصور، بصراعاتهم الداخلية ومنابرهم المذهبية ونسوا قضيتهم الأساس وسنة رسولهم الكبرى في العمل على إذابة المنابر والمؤسسات المذهبية، والعودة إلى ما كان عليه رسول الله وصحبه الكرام، أمة واحدة.
لقد شهد رسول الله على قومه شهادة علم وبلاغ مبين. ولقد ضرب رسول الله وصحبه الكرام المثل الأعلى في تفعيل آيات الذكر الحكيم سلوكاً عملياً في حياتهم فكانوا خير أمة أخرجت للناس، تأخذ بأسباب التقدم الحضاري وفق مقتضيات عصرها.
فأين هذه الأمة اليوم بكيانها الإيماني المتماسك، وسلوكها الحضاري المتقدم، كي تدافع بحق عن رسول الله؟ إن محبة ونصرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليست كلمات تعقد لها المؤتمرات، وتصدر من أجلها بيانات الشجب والإدانة. وليست في التعدي على ممتلكات الآخرين وحرقها. وليست في أعمال العنف الطائفي وسفك الدماء بغير حق. إنها سلوك إيماني حضاري، يورث ويقوى ويتطور عبر العصور، يفرض على الآخر احترام مقدساتنا.
إن محبة ونصرة رسول الله في صدق الاتباع الذي يُظهر للعالم حقيقة الإسلام، وأن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس. فأين فاعلية هذه الخيرية في واقع الناس اليوم، وفي إقامة الشهادة على العالمين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟ إن قضية المحبة والنصرة لله ولرسوله أصل من أصول الدين، وليست من فروعه، لذلك يجب أن نتعامل معها بمنهج علمي لنقف على ما يجب فعله أمام هذه التحديات العالمية، خاصة وقد مرت علينا قرون هجرنا فيها الأفعال واكتفينا بالأقوال، وتوجه تفسيرنا لآيات الذكر الحكيم لخدمة توجهاتنا المذهبية انطلاقاً من واقعنا المرير.
لقد تحول الأمر الإلهي بالصلاة على النبي في قوله تعالى من سورة الأحزاب:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً {56}
لقد تحول من معنى النصرة والتأييد والتسليم لحكم الله ورسوله إلى مجرد قول يقوله المسلم بلسانه، أو يدونه في كتابه، وانتهى الأمر!! لذلك كان من الضروري ونحن نبين ما يجب على المسلمين فعله تجاه نصرة رسول الله أن نلقي بعض الضوء على معنى هذه الآية. إن الآية تبين أن الله وملائكته يصلون على النبي [ هذا خبر ] وتأمر المؤمنين بالصلاة على النبي والتسليم له [ وهذا أمر ]، فما معنى " الخبر " وما معنى " الأمر "؟
لقد اقتضت إرادة الله إخراج الناس من الظلمات إلى النور رحمة بهم، ومن أجل ذلك أرسل الله تعالى رسله، يقول الله تعالى في نفس السورة:
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً {43}
فصلاة الله وملائكته ليست كلمة تقال أو تدون كلما ذُكر اسم رسول الله [ استناداً إلى هذه الآية واستجابة لأمر الله فيها ] وإنما هي صلة فعلية واقعية بالناس لإمدادهم بما فيه هدايتهم إلى صراط ربهم المستقيم، الأمر الذي لا يتحقق إلا بإرسال الرسل. إن الخبر الذي جاءت به الآية [56] من سورة الأحزاب " إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " قد سبق بيانه في الآية [43]، فمن آمن واتبع النبي فقد شملته رحمة الله " وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ".
بل وقد جعل الله تعالى إرسال هذا النبي العظيم عين الرحمة للعالمين، فقال تعالى في سورة الأنبياء:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}
وهنا نقف على حقيقة هامة هي أن صلاة الله وملائكته عامة تشمل الناس جميعاً وأن الذين يقيمون الصلة بين الله والناس هم الرسل، فكان من المنطقي أن تحدث [ أولاً ] الصلة بين الله والنبي [ وهذا هو الخبر الذي جاءت به الآية 56 ] ثم يأمر الله الناس بإقامة صلة من نوع آخر مع النبي وهي صلة الاتباع والعمل بكتابه الذي أنزل الله عليه.
ويبين ذلك قول الله تعالى في سورة إبراهيم:
الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد ِ{1}
وتدبر قول الله تعالى في سورة الأنعام:
وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {155}
وقوله تعالى في سورة آل عمران:
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132}
إذن فالأمر في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً " لا يعني مطلقاً أن على المؤمنين كلما ذكر اسم رسول الله [ قولاً أو كتابة ] عليهم أن يقولوا أو يدونوا جملة " صلى الله عليه وسلم " أو " عليه الصلاة والسلام" أو " اللهم صلي على محمد "، بهذه الصيغ المختلفة، استناداً إلى هذه الآية، وإنما يعني أن عليهم إقامة الصلة الحقيقية الفعلية، والولاء والطاعة والنصرة لهذا النبي، والتفاعل مع شخصه الكريم، ورسالته العظيمة، والتسليم لحكمه، الأمر الذي لا يمكن أن يُحققه عملياً وواقعياً إلا هؤلاء الذين عاصروا رسول الله، وسمعوا منه، وكان بإمكانهم أن يقيموا الصلاة عليه والتسليم له سلوكاً عملياً في واقع الأمر.
وكذلك هؤلاء الذين جاءوا من بعد وفاة رسول الله، وشهدوا شهادة علمية أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً هو رسول الله حقاً وصدقاً، وأن هذا القرآن وما حمله من أحكام الشريعة الإلهية حق واجب الاتباع، هؤلاء تتمثل طاعتهم ونصرتهم لهذا النبي الكريم في تفاعل قلوبهم مع آيات هذا القرآن الحكيم، وتفعيلها سلوكاً عملياً في واقع حياتهم أسوة برسول الله وصحبه الكرام، رضي الله عنهم أجمعين.
لأنه لا يُعقل أن يتساوى الأمر القطعي الثبوت بطاعة الرسول في هذه الآية، وما يحمله من تحذير ووعيد لمن خالفه وعصى أمره، مع الأوامر والأحكام التي حملتها مرويات الفرق والمذاهب المختلفة [ الظنية الثبوت عن رسول الله ] والتي خضعت في ثبوت حجيتها لوجهات نظر علمائها ومدارسهم في الجرح والتعديل؟!!
إنه لا يمكن أن يتساوى قوة هذا الأمر الإلهي والتزام المؤمنين بتنفيذه في عصر الرسالة، مع قوته وتنفيذ المؤمنين له على مر العصور وإلى قيام الساعة، إلا في حالة واحدة:
إذا كانت المرجعية التي حملت نصوص هذه الأوامر الإلهية واحدة، ومحفوظة بحفظ الله لها إلى يوم الدين.
ولا يوجد كتاب قد حمل نصوص الشريعة الإلهية يمكن الرجوع إليه، اتفق علماء الفرق والمذاهب المختلفة [ منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا ] على حفظ الله لنصوصه غير كتاب الله تعالى.
ولكننا منذ أن حولنا الأعمال إلى مجرد أقوال، لنستريح ونريح، تحول هذا الأمر الإلهي " صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً " بقوته وفاعليته المثمرة [ إلى يوم الدين ] إلى مجرد قول يقوله المسلم، يخرج على لسانه بصورة تلقائية، دون فهم أو وعي لمعناه. ويا ليته يُقال بصورة إيجابية وإنما بصورة سلبية، بل وبأقصى درجات السلبية.
فهل يعقل أن يأمرنا الله بالصلاة على رسوله والتسليم له فلا ننفذ نحن هذا الأمر ونطلب من الله أن يقوم هو بتنفيذه قائلين " اللهم صل على محمد "، أي صل أنت يا رب نيابة عنا!!! يأمرنا الله تعالى قائلاً: " صلوا ... وسلموا ... فنقول له: صل أنت يا رب وسلم!!! هل يعقل ذلك؟؟ ثم أين تنفيذنا لأمر الله تعالى؟!!
إذن فالنزاع ليس في وجوب الصلاة على رسول الله والتسليم له، وإنما في معنى هذه الصلاة، ومعنى هذا التسليم، وكيفية تنفيذهما بعد وفاة رسول الله.
إن صلاة الله وملائكته: مددٌ وتأييدٌ ونصرةٌ ورحمةٌ للناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، من لدن آدم عليه السلام. ومهمة رسول الله محمد: تفعيل صلاة الله وملائكته في واقع الناس، أيضاً رحمة بهم، وذلك بإقامة الصلة بينهم وبين ربهم. ومهمة الناس: إتباع هذه الفاعلية سلوكاً عملياً في حياتهم.
يقول الله تعالى في سورة الأعراف :
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157}
إن قول الله تعالى: " فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " هو البيان المفصل لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ". فلا يكفي مجرد ادعاء الإيمان بالله ورسوله وإنما يجب بيان صدق هذا الادعاء سلوكاً عملياً بالنصرة والتأييد والتسليم لأمره وذلك باتباع فاعلية هذا " النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ".
وهل هناك نور بلغه رسول الله وأمر باتباع نصوصه غير نور القرآن؟ لذلك جاء الخبر في الآية [56] بالصلاة فقط من الله وملائكته على النبي دون التسليم، حيث قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " بينما جاء الأمر في نفس الآية بالصلاة والتسليم معا على النبي: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً "، إذن فالذي يهمنا في هذا البحث هو دور الملائكة في هذه بالصلاة، وموضوع الأمر بالتسليم وكيفيته.
نعم ... إن للملائكة دورا في هذه الصلاة وعلى رأسهم جبريل عليه السلام فهو الذي ينزل برسالات الله تعالى، فضلا عما تقوم به الملائكة من تأييد ومدد ونصرة للمؤمنين. وهذا أيضا من مظاهر الرحمة الإلهية. أما قول الله تعالى " وسلموا تسليما " فيوحي بأن المطلوب هو الفعل وليس القول أي الطاعة والخضوع، وليس تحية الإسلام " السلام عليكم " فلم يقل الله تعالى: " وسلموا سلاماً " ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة النساء:
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65}
لذلك فإن نفي الله تعالى صفة الإيمان عن كل من لا يرضى بحكم الرسول والتسليم له في عصر الرسالة مسألة منطقية يفرضها واقع فترة التنزيل واكتمال الدين. ذلك لأن قوة الأمر [ بالطاعة والتسليم لحكم الرسول ] في الآية لا يستطيع تحملها إلا هؤلاء الذين يمكنهم [ في حالة إرادتهم التثبت من صحة الأمر ] أن يذهبوا إلى رسول الله ويسمعوا منه مباشرة. هنا فقط تكون قوة الأمر الإلهي لها فاعليتها حيث ربطت الآية مسألة الطاعة والمعصية لأمر الرسول بمسألة الإيمان والكفر. وأنا عندما أقول في حديثي، أو أكتب في مؤلفاتي، جملة " صلى الله عليه وسلم " [ في زمنها الماضي ] أستند في ذلك إلى أن الله تعالى قد صلى فعلاً على رسوله محمد [ بالمعنى الذي ذكرته ] طوال فترة بعثته، والآيات في ذلك كثيرة ومنها آية الأحزاب [56] والتي جاءت في زمنها المضارع المستمر " يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " لبيان فاعليتها في فترة التنزيل. وعندما أقول " وسلم " لأنه سبحانه قد سلم فعلاً على جميع المرسلين وعلى عباده الذين اصطفى، فيقول الله في سورة النمل:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59}
ويقول تعالى في سورة الصافات:
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181}
ومفهوم كلمة " الصلاة " يحدده السياق الذي وردت فيه، فنجد على سبيل المثال في سورة التوبة أمراً من الله تعالى لرسوله بالصلاة على المؤمنين المتصدقين، فيقول تعالي:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {103}
فالصلاة هنا تعني الدعاء [ أي صلهم يا محمد بدعائك ] وهو أمر ليس خاصاً برسول الله في عصر الرسالة وإنما قانون أخلاقي عام يلتزم به ولاة الأمور على مر العصور. فالصلاة عليهم: تعني الدعاء لهم، لذلك فإن كلمة " عليه " في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ " [ الآية 56] لا تعني أن نقول " عليه الصلاة " أو " صلى الله عليه "، وإنما تعني تقديم شيء له، وهو طاعته ونصرته والتسليم لحكمه.
وتعني كلمة " الصلاة " في القرآن الكريم الهيئة المعروفة بين المسلمين، من قيام وركوع وسجود، وهي مظهر من مظاهر الاتباع والتسليم لأحكام الله تعالى وأوامره، وهي أيضاً ليست مجرد كلمات تُقال دون سلوك عملي يؤكد الالتزام بمعناها. فالله تعالى يقول في سورة العنكبوت:
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {45}
فإذا أقام المسلم الصلاة حق الإقامة فإنها لا شك ستنهاه عن الفحشاء والمنكر هذه هي حقيقة الصلاة. لذلك ينهى الله المؤمن أن يقرب الصلاة وهو في حالة لا يعي فيها ما يقول. فيقول تعالى في سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً {43}
ولا يمكن أن تحقق الصلاة فاعليتها بدون حب. ولا يمكن أن يخضع المسلم لربه ويسلم لرسوله بدون حب. فالحب هو القاعدة التي يقوم عليها الاتباع.
تدبر قول الله تعالى في سورة آل عمران:
" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [31]
فقوله تعالى: " فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ " دليل على أن المرء لا ينال محبة الله تعالى إلا بحب رسول الله واتباعه. بل لقد أمر الله تعالى أن تكون درجة الحب لله ولرسوله أعلى من أي حب في هذا الوجود. فيقول تعالى في سورة التوبة:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [24]
وبين سبحانه أن المقصود بقوله " أَحَبَّ إِلَيْكُم " ليس المعنى الكمي، أي حجم الحب وكثرته، وإنما المقصود المعنى الكيفي، أي جوهر الحب وقاعدته التي يقوم عليها. فقال تعالى في سورة البقرة:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ " [165]
تدبر قوله تعالى: " وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ". إن الله تعالى لم يمدح المؤمنين لأنهم أكثر حباً لله من المشركين من حيث كمية الحب، وبالتالي إذا زاد المشركون أسهم حبهم لله عن أسهم حبهم للأنداد [ ولو بسهم واحد ] أدخلهم الله في زمرة المؤمنين الموحدين [ كيف وقوله تعالى في ذيل الآية " إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ " ينفي ذلك تماماً ] وإنما مدحهم الله تعالى لأنهم " أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ "، والشدة تعني القوة، القوة الإيمانية وليس الكثرة العددية.
فالذين آمنوا يقيمون حبهم لله تعالى ولرسوله على قاعدة إيمانية ثابتة. أي أن مظاهر الحب والاتباع لله ورسوله ليست مظاهر شكلية عددية وإنما سلوك عملي حضاري يقوم على قاعدة إيمانية راسخة تستمد قوتها من صدق الاتباع.
إن أول الطريق إلى نصرة رسول الله يبدأ بصدق الاتباع، أي بالحق الذي أنزله الله على رسوله، وأمر الناس باتباعه، وحفظ نصوصه ليكون حجة عليهم إلى يوم الدين. إن أول الطريق إلى نصرة رسول الله أن يلتف المسلمون وعلماؤهم حول كتاب الله، يستمدون منه عطاء عصرهم. هذا العطاء الذي يُظهر فاعلية آية القرآن في مواجهة تحديات كل عصر.
إننا إن فعلنا فإن ردود أفعالنا تجاه ما نواجهه من تحديات ستكون أكثر حكمة، وأرشد فقهاً، وأحسن انضباطا.